الأربعاء، 2 يناير 2013

في ذكرى سقوط الأندلس

وقف أبو عبدالله ،آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش الملك فرديناند والملكة إيزابيلا ،على شاطىء الخليج الرومي تحت ذيل جبل طارق قبل نزوله إلى السفينة المعدة لحمله إلى أفريقيا ،وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر فألقى على ملكه الذاهب نظرة طويلة لم يسترجعها إلا مبللة بالدمع ،ثم أدنى رداءه من وجهه وأنشأ يبكي بكاء مرًا وينشج نشيجا محزنا حتى بكى من حوله لبكائه،وأصبح شاطىء البحر كأنه مناحة قائمة تتردد فيها الزفرات ،ويستبق العبرات،فإنه لواقف موقفه هذا وقد ذهل عن نفسه وموقفه إذا أحس هاتفًا يهتف باسمه بصوت كأنما ينحدر إليه من علياء السماء ،فرفع رأسه ،فإذا شيخ ناسك متكىء على عصاه،واقف على باب مغارة من مغارات الجبل المشرف عليه ينظر إليه ويقول:
نعم...لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء فإنك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال.
إنكضحكت بالأمس كثيرًا ،فابكِ اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس ،فالسرور نهارُ الحياة والحزن ليلها،ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم.
لو أن ما ذهب من يدك من ملكك ذهب بصدمة من صدمات القدر،أو نازلة من نوازل القضاء،من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة ،لهان أمره عليك ،أما وقد أضعته بيدك ،وأسلمته إلى عدوك باختيارك ،فابكِ عليه بكاء النادم المتفجع الذي لا يجد له عن مصابه عزاء ولا سلوى.
لا يظلم الله عبدًا من عباده ،ولا يريد بأحدٍ من الناس في شأن من الشؤون شرًا ولا ضيرًا ،ولكن الناس يأبون إلأا أن يقفوا على حافة الهوة الضعيفة فتزل بهم أقدامهم ،ويمشوا تحت الصخرة البارزة المشرفة فتسقط على رؤوسهم.
لم تقنع بما قسم الله لك من الرزق،فأبيت إلا الملك والسلطان ،فنازعت عمك الأمر ،واستعنت عليه بعدوك وعدوه،فتناول رأسيكما معًا،ومازال يضرب أحدهما بالآخر حتى سال تحت قدميكما قليب من الدم فغرقتما فيه معًا.
لي فوق هذه الصخرة يا بني الأحمر سبعة أعوام ،أنتظر فيها هذا المصير الذي صرتم إليه،وأترقب الساعة التي أرى فيها آخر ملك ملكًا  يرحل عن هذه الديار رحلة لا رجعة من بعدها ،لأني أعلم أن الملك الذي يتولى أمره الجاهلون الأغبياء لا دوام له ولا بقاء.
اتخذ بعضكم بعضًا عدوًا ،وأصبح كل واحد منكم حربًا على صاحبه فسقتم المسلمين إلى ميادين القتال يضرب بعضهم وجوه بعض،والعدو رابض يتربص بكم الدوائر ،ويرى أن كلًا منكم قائد من قواده ينبعث بين يديه لقتال أعدائه،والمناضلة على ملكه ،حتى رآكم تتهافتون على أنفسكم ضعفًا ووهنًا،فاقتحمكم ،فما هي إلا جولة أو جولتان حتى ظفر بكم معًا.
ستقفون غدًا بين يدي الله يا ملوك الأسلام ،وسيسألكم عن الإسلام الذي أضعتموه وهبطتم به من علياء مجده حتى ألصقتم أنفه بالرغام.وعن المسلمين الذين أسلمتوهم بأيديكم إلى اعدائهم ليعيشوا بينهم عيش البائسين المستضعفين ،عن مدن الإسلام وأمصاره التي اشتراها آباؤكم بدمائهم وأرواحهم ثم تركوها في أيديكم لتذودوا عنها ،وتحموا ذمارها ،فلم تحركوا في شأنها ساكنًا حتى غلبكم أعداؤكم عليها ،فأصبحتم تعيشون فيها عيش الإذلاء ،وتطردون منها كما يطرد الغرباء ،فماذا يكون جوابكم إن سئلتم عن هذا كله غدًا؟.
 يسألكم الله يا بني الأحمر عني وعن أولادي الذين انتزعتموهم من يدي انتزاعًا أحوج ما كنت إليهم ،وسقتوهم إلى ميادين القتال ليقاتلوا إخوانهم المسلمين قتالًا لا شرف فيه ولا فخار ختى ماتوا جميعًا موت الأذلاء الأدنياء ،فلا أنتم تركتموهم بجانبي آنس بهم في وحشتي ،وألجأ إلى معونتهم في شيخوختي ،ولا أنتم ذهبتم بهم إلى ميدان قتال شريف فأتعزى عنهم من بعدهم بأنهم ماتوا فداء عن دينهم ووطنهم.
فها أنذا عائش من بعدهم وحدي في هذا الغار الموحش ،فوق هذه الصخرة المنقطعة أبكي عليهم ،وأسأل الله أن يلحقني بهم فمتى يستجيب الله دعائي ؟ .
(من كتاب العبرات للمنفلوطي)


ما أشبه هزائم اليوم بهزيمة الأمس ...كأنني أقف على عتبة الخروج من فلسطين وأنظر إليهم يرقصون طربًا على الهزيمة والذل، ملك بني الأحمر أذل الأندلس وجعلها تسقط في الهاوية هو ليس بقائدٍ ولا ملك هو الطامع الذي اتفق مع العدو ظنًا فيه سيعطيه المُلك الذي لا ينتهي .
تدبروا خطبة الشيخ المسكين ، وتأملوا في ذلك الملك المنكسر وتلك الأرض المذلولة ،هذه الاتفاقية بين القوي والضعيف من السهل على القوي طرد الضعيف ...لأن ذلك الضعيف ما زال يقدم التنازلات التي نسميها التضحيات .

لن يرحمكم التاريخ !! كانت الأندلس لكم وضاعت بأياديكم وانتم تشاهدون ضعفها وانكسارها واليوم في يدكم بقية من البلاد ما زلتم تضيعونها وتنظرون لأنكسارها ،فلسطين لا تتباكوا عليها ولا تلوموا من أضاع الأندلس ،فما نعانيه اليوم من صنعكم ومن طمعكم ومن ايديكم التي تصافح من يقتلنا كل يوم.
 لا تظنوا بالبنيان والعمارة تصنعون دولة وحضارة فالعبرة بمن سبقكم ،الحضارة بنصرة المظلوم واطعام الجائع ،بطون المسلمين أولى كما قال عمر ابن الخطاب إن كنتم تعتبرون ، دمائنا تسيل كل يوم وانتم تعدون شهدائنا وتترحمون فقط ولن يرحمكم الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق