الجمعة، 30 نوفمبر 2012

عدت إلى الديار يومًا

يومًا ما أتتني ورقة تعطيني إذن الدخول لأرضي التي احتفظت بها في مخيلتي فقط، مع برودة الصباح أقف وبيني وبين وطني حواجزٌ وأروقة صغيرة وباب ، فُتح الباب وأشرقت الشمس وكأنها في عيني تحجب عني كثيرًا من الألم.

أخيرا بعد طول انتظار وقلق وطقطقة اصابعي ورجفة قلبي ، عدتُ إلى ذلك الشارع لأقف في وسطه ، وأنظر من حولي إلى جدرانه المختفية ملامحها وذكرياتها ، بسمر ليالينا ، بضحكاتنا العالية التي حلّ عليها الصمت الثقيل، على ذلك الجدار رُسمت أحزان لا أدري هل تشهد مأساة صراخ عويل ، أم شهقات الروح وهي تخرج أم رصاص وصوت مدفعية أم مجزرة ، هو شاهد لم يتحرك ساكنا فاحتله الحزن وأذهب ضحكاتنا وأحلامنا وطفولة عُدمت برائتها.

 تسائلت بلهفة عن أطفال كانوا هنا مكان وقوفي يتعلمون الدبكة ويطربون للمجوز ويتمايلون بأرجلهم على دقة الطبلة تتعالى اصواتهم بسرور وبراءة ، يغني لهم جدهم الكبير وتنظر امهاتهم لهم بحنان ،  والجدة تخبز على نسمات الصبح ، و اب يكدح لقوت يكفي يومه ، وشباب يحلم ، وبنات تنتظر الحب.

ذلك الحي أخترقه الموت.. زخ الرصاص كالمجنون، متلهف على دمائهم لم يأبه بصرخاتهم واستغاثاتهم ، لم ينظر إلى عيونهم، لم يأبَه بأحلام طفولتهم البعيدة بلعبهم المنتظرة ، بكتبهم وألوانهم ، هجم عليهم نهش أجسادهم دون اعتبار لقلوبهم الشقية ولألعابهم الصامتة الشاهدة على دمائهم.

وحده ظن نفسه نجى من الموت ولكن كيف ينجو من ذكرى الموت كيف له أن ينام على وسادته دون أن يتذكر مشهد الموت فيموت مرتين ؟!

عاد رجل بعدما كان طفلا ضعيفا ، وشهد الموت مرة أخرى لكن لم ير شارعه ولا رصيفه ولا بيته ولا صوت أمه تناديه ، لم يسمع أغاني جده ، ولم يأكل من خبز جدته ، ولم يرَ اصدقاء طفولته يرشقون الحجارة عليه ويركضون ...ركض باحثًا عنهم ركض كثيرًا ، أرهقه شوقه ، وعاد إلى نقطة دماء امه ، اخوته ،عائلته ! لم يجد شيئا لم يلقَ أحدًا حتى ارواحهم لم تبقَ ولم تحفظ العهد..كيف تحفظه وحارته لم تعد حارته ، وحراسوطنه مُعدمون.

عاد لواقعه رأى غرباء ذو قبعات سوداء عيون حاقدة بيني وبينهم بارود وكوشان ومفتاح ، فقط هو الحق الذي مازال يتقلب على أعقاب النارالهادئة تارة وحامية تارة نسي مؤنسيها أن يطفئوها ويعود ذاك الضائع.

وما رجوعي بشوارع تستنكرني ولا تعرفني وتبعد عني بغربائها ، وبوطن أتفرج على سرقته و أخجل منه ، وتلك الكوفية التي نكتفي بوجودها كأنها توهمنا إننا ما زلنا على العهد ! فلم تعد تنتفض مع رعد الرصاص ولا تهتم بحقن دماء مناضليها ..هل نبحث عن باب بيت مغلق؟ أم نومةهادئة؟ أم شارع محرر؟ أم أرض تعود لأصحابها؟، يا وطن اتسع لي ولعودتي ..اتسع لأحلامي وإلا دعني أبحث عن متر في الأرض وأدفن نفسي واكتفي بأني مت للمرة الثانية من وجعي بك موتة طفولتي وموتة وطن؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق