الثلاثاء، 4 ديسمبر 2012

مشاهد من سورية


الثورة هي الخط الفاصل بين الحياة والموت ،الثورة هي من الأشياء التي لا تُشترى،تفقد الكثير لتعيش ،تدفع ثمن حريتك حتى لو انتزعت روحك ، الثورة تجمع الألم بفقدانهم والفرح بما سيحظون به في الجنة . هي مشاهد تحدث كل يوم وتبقى عالقة بهم ونحن ربما سننساهم ،سنعرف صورهم ورقمهم في قائمة الشهداء ،لكننا لا نعلم ما الفراغ الذي تركوه في أوطانهم وعائلاتهم ،لا نعرف ما شعور أم الشهيد وهي تشرب فنجان قهوتها لوحدها ، لا نعرف كيف سيكبر الصغير دون والدته ، لا نعرف حجم فقيدهم في نفوسهم فنحن نحرس على الخبر العاجل وننسى لأننا نتقن النسيان ،وحدهم أهل سوريا لن ينسوا فالثورة مُكلفة. شهدائنا هدية الوطن وروحه التي ستبقى شامخة لأجلهم.




(1)

 كيف له أن يخرج حافي القدمين يبحث عن لقمة يسد بها رمقه في طابور المخيم البارد وقد كان عزيزًا له والد أهداه الحياة ،اليوم يقف وحيدًا كأنه رجلٌ مسؤول ،في عينيه حكايا من الموت والخوف ،أشبعته الحرب مقتًا أثقلته بثكالى يحملهن على ظهره ،لم يكبر بعد،لم يكتفِ عن اللعب تحت المطر!! ...كيف لذاك السفاح أن يأكل حق طفولته ؟! وكيف له أن يجعل منه ارهابيًا صغيرًا مشردا، ويعري نفسه بلسانه ويلوثه بضميره المفقود ويسخر من طهر دماء أبيه ....وما زال ينتظر دوره في طابور الحياة من أجل العودة واللعب تحت المطر !!

(2)


كيف لرغيف الحياة أن يختلط مع رائحة الموت ويستنشقها حتى يموت مع صاحبه الجائع ،كيف لنا أن نتفرج على الروح وهي تخرج من جسدها  والحياة تفارقه ولم يسد جوعه  بعد ،وهكذا يذهب ويترك وراءه كثيرين يبحثون عن قوتهم ونحن نبحث عن مشاهدات حتى نشعر بالعالم وهو يبكي على آلأمنا أو يغض الطرف عنها ، أهناك نبض بقلبك وأنت تغض بصرك عن من تُسرق حياته ؟!
هناك من يبحث عن وطن ومنهم عن حرية ومنهم عن بيت وآخر عن شجرة يستظل بها ، ومنهم يبحث عن بقايا رفات أخيه ،ومنهم يبحث عن مترٍ في الأرض ليرقد بسلام .


(3)

أتسائل عن صورة الطفل الخارج من الأنقاض ، ينظر ليديه ويتفقدها يا ترى هل يشعر بوخز بها ،أو انه مندهشٌ من وجود يديه  ،أو يا ترى يتفقدها ليرينا كيف يعيش من دوننا ،كان ينظر لمعجزة يداه ويبكي لأنه لم يرهما وهما مدفونتان تحت الأنقاض!!...سأطأطىء رأسي خجلا وأقبل يديك واستنشق منها رائحة الحياة وربما بعضًا من الكرامة.

(4)

سأصرخ عاليًا وستدوى صرختي في كل جدار لأهدمه، ستصرخ معي كل الآمي ودموعي المتحجرة داخل مقلتي ...ستصرخ معي كل نبضة أحيا بها ،سأظل أصرخ وتصفعني أحزاني وأموت أرضًا وأنا أصرخ أريد وطنًا أو بيتًا أو جدرانًا لها سقف تحمي طفولتي وبراءتي تحمي أحلامي وألعابي ،أريد جسمي سالمًا من دون أطراف مفقودة،أريد أخي ، وأمي وأبي ،أريد دميتي  فقط ،لا أريد غير حق طفولتي المعدومة تحت الرصاص ، أريد صرختي أن تعلو عاليًا وتصم أذانهم وتميتهم بعارهم ،أريد صرختي لتصل قلوبهم تجعلها ملتهبة محروقة تذوب كمدا .


(5)

في كل ليلة يسهر ويدرس أكثر ويحفظ حتى تخونه عيناه وتغطا في النوم، تأتي أمه وتوقظه على نغمات دعائها فيبتسم وهو مغمض عينيه ،ويفكر كيف ستمضي سنة الثانوية العامة ؟وكيف ستنتهي ساعات دراسته وقلقه ؟!يتخيل نفسه نجح وأتى بشهادته ودموعه بفرحة نجاحه يقبل جبين أمه ويتبلل بدموعها ،يسمع قلبها وهو يدق كالطبول من الفرحة التي زارتهم واخيرًا،يمسك البقلاوة ويوزعها على المارة وتعلو ضحكاته ،ويدخل كلية الطب حتى تجلس أمه بين نساء حارته وتحدثهن عن تفوق ابنها وتميزه وحب أساتذته له ، ويجلس أبوه في دكانه وينسى فقره وكدحه ويحدث جيرانه بفرح عارم عن حلمه بولده الوحيد ،وكيف أنه غدًا سيلبس البالطو الأبيض ،وتكون له عيادته الخاصة ،فيستيقظ وكله نشاط  وحيوية وأماني يستعد لامتحانه ، وينتظر نتيجته بقلق وتوتر وثقة خجولة بتفوقه ،يأتيه أبوه بملابس جديدة للجامعة تليق بفتى كلية الطب ، وفي يوم نتائجه لم يأكل فطوره ،رغيف الخبز كان كاملًا ،لم يشرب الشاي مع أمه ،لم يتشاجر مع أخته على جهاز الحاسوب ،فالموت سبقه وسرق روحه ولم يرتدي ملابسه الجديدة بعد ...سكنت صباحاتهم بحلم ميت وتنتهي مساءاتهم ببكاء صامت وكرسي فارغ ....ويسمعون نتيجته وصدورهم تتمزق ،فجأة تصرخ أمه ...ابني ناجح ...ابني متفوق تسارع إلى المطبخ وتحضر الحلويات ويشتري الاب البقلاوة ،،،وتبتسم وهي ذاهبة إلى غرفته وتبشره بنتيجته ...دخلت ولم تجد إلا رائحته وكتبه وابتسامته التي سرعان ما اختفت ...لم يتبق شيئٌ ...قُتلت بشارتها ،الموت لا يستقبل النجاح ، لم يعد حاضرًا ،شهادته تقف على الحائط وحيدة لا تملك غير اسم ، اسم ذكرى ما زال صوته يخفت ويحل السواد وعيون فاقدة لكل شيء،،فشهادة الآخرة أخذته وهو يصلي الفجر في المسجد ويدعو لنفسه ،فرحمته تلك الشهادة !

(6)

يا ترى ماذا لو بقيت يدي معي ،كيف لو كنت أملك أصابع ألمسها كل صباح ،أشعر بسخونة كوب الحليب ،وألمس بها كتبي وألاعب دميتي ويكون لدي أظافر ألونها في المناكير وأبرزها لمرآتي وأضحك عاليًا لأضع كفي على فمي وتبرز نعومة أظافري في المناكير،ماذا لو كان لدي يد وأشتري اكسسوارات تزينها ........مجرد أحلام لفتاة استيقظت من تحت القصف ووجدت يدها مفقودة ،هذه ذاكرة الجسد كيف ستنسيها جلادها ؟!


(7)


أحب أن أستيقظ لأرى صباحي في ورودي ،زهر الياسمين الذي أرى نفسي به ،مُشعًا بلونه الأبيض ، يحرك كل شيء من حوله برائحته الساحرة،أراه بعمري وهو مزهرٌ ،يشتعل بالحياة في ضوضائها وسكونها ،وعندما يذبل أحس أن قلبي قُبض واهتز نبض الحياة في داخله وكأنه ينتظر الموت أسارع في تبديل زهوري حتى أراها جديدة تتزين كعروس فتعود ابتسامتي ، اتأمل زهوري وأنا أشعر بها كأنها تشبهني،أنا نسخة منها ،انتظره ليسقيني ماءًا وأبقى اشتم الحياة بروحه المسافرة إلي ،وأحلم بنا وبزفافنا على أضواء الشام ورحيق الشام ،،،،وفي يوم لم تستيقظ وارتمى زهر الياسمين ليختلط بدمائها وتوقفت الحياة بينهما ،لم تعد تحلم بفستانها الأبيض ،وقد توقفت عن الانتظار والشوق وغادرت الحياة بلوعتها ،لن تضيء الشام بفرحها !!


(8)
هنا كانت غرفتي وهنا كنت أتناول طعام الغداء ،وهذا شارع مدرستي ،وهنا كنت اتسكع مع أصدقائي كلها اندثرت ومضت وكأن شيئًا لم يكن ولم يعني لنا شيئا ،وأعدمت الحياة من حيي ،ولم تعد حجارته تعرفني ،ذهب كل ركن في حارتنا حتى خيالات اصدقائي اختفت ،لا شيء يحتفط بأحزاننا أو أفراحنا ،كانت هنا دياري التي أحببتها ورويتها بذكرياتي ،فلا أرى سوى دمارًا ينهشها ويخفيها فأصبحت حجارة صامتة فقط.


(9)

تجتمع مع جيرانها الضغار وتتشاجر معهم حتى تكون هي المعلمة وهم طلابها وبقوتها تستحوذ دور المعلمة وتُجلسهم أمامها في صفين، يستمعون وينظرون لها بتركيز، تحمل الطبشورة وتخط على الحائط ،،يسقط النظام،،ويرددون من ورائها ، كانت تعلمهم درسًا في الثورة ،ويحلق علم الثورة في يداها وتهتف يا سوريا حنا معاك للموت، فتأخذهم الحماسة ويهتفون بأعلى صوت لديهم ويركضون كأنهم ذاهبون للجهاد والتحرير، هم صغار لا يعرفون الوحوش التي تتربص على حدود حارتهم الصغيرة ، فتنتبه تلك الفتاة الصغيرة على الفوضى التي عمت بين طلابها فتنهرهم وتعيد ترتيبهم وتعلمهم النظام ، لأنها في يوم من الأيام ستكون في هذا الموقف تمارس مهنتها في الحقيقة ،لذلك لا تُريد لهيبتها أن تنقص،أجلستهم وقالت لهم رددوا من ورائي ،، حرية للأبد ،،وتخالطت هتافاتهم وشعاراتهم وكلها كانت من أجل سوريا حرة ، وفجأة اختفت أصواتهم وهم اختفوا ، وتبقى ذلك الشعار على الحائط ،،يسقط النظام،، ماتوا لكن لم تمت أحلامهم وبقي ذلك الشعار لوحة تزين الحائط ، كانوا هنا يتعلمون عن الثورة.وسيكملون درسهم في الجنة .

(10)

هي ...صغيرة غدًا ستستيقظ وتبحث عن والدتها ، تريد طعامًا ، تريد سماع صوتها واللعب في شعر أمها وتحلم أن يطول شعرها أيضًا، وتستعدان لتحضير الغداء واستقبال والدها ،وتمشي إليه لتريه أنها سيدة كبيرة !! ،،،هي تريد أن تكبر وأمها تدرسها وابوها يوصلها إلى المدرسة،،،تريد أن تأخذ موافقة والدها على رحلة المدرسة؟؟،،،تريد منهما المصروف وملابس العيد،،،تريد منهما قصة قبل النوم ،،،تريد منهما قُبلة وحب،،،تريد منهما أن يحضرا لحفل تخرجها ،،تريد منهما نظرة الفخر بها ،،،تريد هديتها على تفوقها،،،هي تريد من والدها أن يزفها إلى زوجها،،،تريد سماع زغاريد أمها،،،تريد جدًا وجدة لأولادها......... استيقظت وحاولت إيقاظهما لم ينطقا ،،قالوا لها استشهدا ،،،وبقيت على صغرها تحفظ صورة من أعدم لها حياة والديها ،،هي تدعو عليه ،،إلى أين سيذهب من دعوة الصغيرة ؟!،،،ومن سيمسح دموع الصغيرة بعد اليوم؟!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق