الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

المنسي (قصة قصيرة)

في فورة القهوة وانكبابها لتطفئ العين المشتعلة ، ألقت علي حنين مجبول بالقهر على ذكريات أقفلتها بإحكام كي لا تطاردني وتصارعني مع الحاضر بمجرد فورة القهوة . انتفاضة القهوة على الحرارة ومسيرة ثورتها على النار أشبه بثورتي على كل شيء حولي حتى اطفأت الروح بداخلي ،وبت أعاني صمت الأماكن والزمان في حالته المستنكرة .وبتلك الفورة التي جعلتني بعد غياب وفصول عديدة تداهمني بغتة ، لتجبرني على الغليان مرة أخرى، واختلطت ازماني ببعضها وأنا هنا أقف بزاوية أنظر للقهوة تسيل مسرعة للخارج مثلما انسللت لخارج المكان منصعقا بي كسرة لا تُجبر وطوفان من الإنكار وحجارة تتراكم بداخلي تثقلني حتى قررت أن لا أشرب القهوة يكفي ما أذاقتني إياه من مرارة بالنظر إليها ، قد اشبعتني وكفى.

الطريق إلى صفد كان بما أحمله من بارودة تثقل ظهري ،لكن الطريق تداخلت به شوائب السياسة وطالت الطريق ! بوعود وخطابات ،وبارودة لا تصمد أمام خيانات. وبعدها أدركت ايديولوجية المصالح والسلك في الكفاح المسلح والدخول في السياسات علي أولا أن أضع نكبة وطني جانبا وأرح حدبتي قليلا وأنظر لأقرب من صفد ، وقد كان حلمي صفد بشوارعها وأهلها وضجيجها وهدوؤها وتآخيها بمختلف طوائفها ولم أعني بصفد تجارة ! أو دكان اختلفنا على تقسيم التركة .

وإن أنكرتني البلاد وأضاعتني بين طياتها وبت محصورا بغرفة للمسنين أمثالي الذين لم يتبق لهم سوى ذاكرة الوطن يمنحوها ولا يعبأ بها أحد ، لأنها ذاكرة قديمة ظانين أنهم مفصولين عنها وهيهات أن ينفصلوا وهم يعيشونها بلحظاتها ،ومن لا يقرأ التاريخ لا يفهم الحاضر ولن يحقق له مستقبل ،يتخبطون ويتعرقلون بأخطاء التاريخ ،يثيرون الضحك أو الحزن في النظر إليهم .

لا أحد يسمعني إلا ورقي الأصفر الذي يصغي لدقات القلم وقلبي معا . أناشد قلمي على الصدق وعلى بث كبريائي ولو كان كذبا ، اكتب لهم لعلهم يرجعون يوما ليسمعوا من الماضي ويتجنبوا خذلان ما يقدمون عليه ، قل لهم إنني كنت مثلهم تأخذني الحماسة والاندفاع معتقدا أنني بطل منتظر وها أنا في حضرة الغياب أعيش وفي انتظار الموت كبطل مستوحد. إن التاريخ يدور بنا وندور حوله دون اصابته لنفهم معناه من التكرار وإعادة النصر والهزيمة. ولطالما تجاهلت نصائح أمي التي اكتسبتها من ابي وتجربته ولم اكتسب شيئا بل خضت غمار المعارك وما أخذت منها سوى حفنة تراب من معاركي وجلوسي هنا لأكتب فقط ولا أملك غير الأبجدية الهالكة.


إن مناظر المخيمات ظلت تلاحقني طوال رحلتي في التحرير ، وجلوس عمتي باب خيمتها مع حقائبها رافضة أن تبعد أكثر عن بيتها حتى تعود وتطفئ النار عن طبختها ، وجدتي التي تنتظر عودة أبي من المعركة مع أن بارودته عادت قبله! وجارتنا التي أضحت بلا أولاد وجُنت وهي تبحث عن أولادها حتى صارت تختطف أولاد المخيم معتقدة أنهم أولادها ، إن المخيم بأكمله قد جُن ،الهزيمة والفقدان والحرمان والفقر والذل يكسر ونتسائل لم هربنا من الموت ؟ أليس الموت أرحم؟! أردت تحرير نفسي من النكبة ومن الظلم ، أردت خلع رداء المظلوم لأنتصر فقط كنت أخاف من صورة المظلوم المنكسر، إن النصر على بعد من الإيمان بحقنا . علقت بصدري مفتاح بيتنا حتى إن عدت سأعود راكضا على صندوق جدتي وآخذ "تعريفة" من أجل الأرجوحة القابعة على بعد شارعين من بيتنا ! لكن ما بال مفاتيحنا اصبحت ميداليات وأشكال ليست حقيقية لتدل على وطنيتهم وكيف ستزرع بهم حب التحرير والسعي للحق إن كانت المفاتيح مادة تجارية وللزينة وللتباهي بها ولتدل على الظاهرة المنتشرة في عمق علاقتنا مع وطن فلن تتحول إلى سلاح وعزيمة في التحرير وستنكمش تلك الإرادة في التحرير وإدخال مفاتيحنا الحقيقية لأبواب بيوتنا المدمرة حتى تصبح زينة! وموضة .

ما يعز علي أنني لم أدفن مثل سلاحي في ذلك الوطن أحسست أن جزءا مني فُقد وذهب ولا يكمله شيئا وهكذا بقيت بنصف روح أنتظر لحاق النصف الاخر بالأول . لا شيء يقرب عزتنا ونحن في جبال الوطن نتعطش لحريتنا ، لذلك إن الموت لأهون علي من المشاهدة التي تصفعني بكل ساعة وبذكريات كحد السكين تمر على كل جرح كان لأجل حق غاب الآن في أروقة الأمم.

غرفتي الآن تعني الهزيمة وكيف آمالنا وعزيمتنا وسلاحنا ذهبا أدراج الرياح وبقي العار في النظر لمروج أراضينا تُبنى عليها مستوطنات صهيونية. في هذه الغرفة التي تتآكل جدرانها بفعل الرطوبة وتخنقني روائح غريبة بها لا أدري من أين تصدر لا تشبع ذكرياتي في تذكر صوت فريد رئيس جماعتنا ومدربنا على السلاح ولا اسمع وقع اقدامي وأنا احرس كتيبتنا، ولا اسمع صوت الصراصير ولا نقيق الضفادع. كل ما أراه في هذه الغرفة هزائم فقط فكأني أرى صورة أصحابي الشهداء إنهم يعاتبوني وأحاول إفهامهم أنهم لا يرون الواقع ولا يصدقوني. .

المشاهدة موجعة ونقمة حلّت بي ، وكأنني على الهامش في عالم آخر ، والموجع أكثر كل ما قدمته وجعلك أخيرا اسيرا في هذه الغرفة لا يُشاهد ، فلا تنتظر من الواقع والمشاهدة سوى الجلوس مكتوف الأيدي ولا تنسى صفع نفسك على وضاعتها . و...إن صدري أصبح ثقيلا ويلجم تفكيري وضعفت يدي على الكتابة فلم أعد احتمل هناك شيء يجتاحني ويخنقني يبدو أن ذكرى الهزيمة تقتلني !!!

ستنشر هذه الكلمات باسم مناضل مجهول ، عثرنا على هذه الورقة في غرفة على سطح بناية الفاروق ، لشخص يبدو أنه لم يكمل رسالته ومات خنقا ، قتلته ذكرياته عندما أعادت له أوجاعه ناسيا غازه مفتوح. لمثل هؤلاء انصبوا تماثيل مجهولة عاشوا لحق وماتوا لأجله ولم يحركهم شيئا سوى الحق لكن يبدو أنه أرهقه عندما لم يجده وقد أصبح منسيا.

هناك تعليق واحد: